صائد الملل والأديان

صائد الملل والأديان

د.جون فرانسوا ماييُر
حين تقابل هذا الرجل ستشعر بأنك أمام مغامر في حالة ترحال دائم أو صياد لا يتوقف عن تعقب فرائسه في أي مكان تكون، هكذا يبدو الباحث السويسري د. جون فرانسوا ماييُر أستاذ الدراسات الدينية بجامعة فريبورغ، خبير الدراسات الإستراتيجية والشؤون الاجتماعية والدينية الذي يقضي حياته كاملة في اكتشاف وتعقب و"صيد" الجماعات الروحية والدينية الجديدة لدراستها وفهمها ليعود بعدها إلى مدينته "المتدينة" فريبورغ؛ حيث الطابق الثاني بمنزل أسرته الأرستقراطي الفسيح على أطراف المدينة المسيحية، والذي اتخذه ملاذاً ومقرا لدراسة وبحث وتشريح هذه الطرائد أو الطوائف.
وفي هذا الطابق الذي يخلو من التليفون، يعيش مايير مكتفيا بالعالم الذي يجثو عند أطراف أصابعه من خلال شبكة الإنترنت التي أسس عليها واحدا من أهم المواقع المختصة بدراسة الطوائف الدينية الجديدة في العالم!

الحياة في محراب الأديان

ولأنه لا يمكن لباحث في الأديان أن يتجاوز هذا الرجل، كان أول ما فعلته في زيارتي لسويسرا مقابلته. ومنذ الوهلة الأولى كان لا بد أن أعرفه، إذ يبدو أن الدراسات الدينية لا بد وأن تترك بصماتها التي لا تخفى على الملامح والطباع، فكان أول ما لاحظته مظهر الزهد والتقشف الغريب على رجل من الطبقة الأرستقراطية، لاحظت مظهره المتواضع ولحيته المشذبة بما يعكس تقشفا يليق براهب اتخذ من الدراسات الدينية محراباً له، ولفت نظري أنه وبالرغم من أنه من مواليد 25 إبريل 1957 فإنه لا زوجة له ولا ولد، ويعيش مكتفيا في ظل انشغالاته الكثيرة بصحبة أفراد أسرته المكونة من والدين وشقيقة يشاركونه منزله الأرستقراطي الفسيح والجميل، وفوجئت بأنه لا يمتلك سيارة، إذ يفضل أن يذهب إلى مقر عمله القريب نسبيا سيرا على الأقدام.

ومايير، كما لاحظت في أثناء الجولة التي اصطحبني فيها داخل كنيسة فريبورغ الكبرى، مسيحي متدين، اختار عن اقتناع ودراسة التحول إلى الأرثوذكسية؛ ولذا يحتفظ في مكتبه بمجموعة متميزة من الأيقونات لقديسين وقديسات منهم القديسة ماري المصرية. كما أنه يحتفي بالفن "الديني" -إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير-، حيث تغطي حوائط منزله مجموعة من اللوحات النادرة المرسومة باليد منذ عدة قرون، وتصور الحياة الدينية في عدد من دول لعالم التي كان من بينها لوحة لعقوبة الزنا في إحدى القبائل الأفريقية!

الهوس بالأديان

وماييُر -كما أكد لي- مهووس بعملية الإبداع الديني الاجتماعي منذ وقت طويل. يقول: "يحضرني حوار دار عام 1979 مع أستاذ لي في الجامعة الفرنسية حول دور الدين بعيداً عن الطقوس والأوامر والنواهي والحقائق التي تؤثر في حياة الملايين، ولكن باعتباره معطى تاريخيا وثقافيا يحاول التفاهم والانسجام مع الهويات المتعددة لمعتنقيه الذين يبدءون في إبداع أمور دينية خاصة بهم وبمجتمعاتهم.

فالإبداع الديني عملية بلا نهاية، والدليل على ذلك السرعة اللافتة لانتشار العديد من الكنائس الأفريقية في أوروبا وتأثيرها على مفهوم وعملية التدين الغربية. وهناك أيضا العديد من الجماعات المسيحية واليهودية التي تبحث عن مكان لها، وقد مزجت أفكارها بأمور أخرى فاستطاعت الوصول والبقاء".

ولا يفصل مايير دراساته عن اهتماماته الشخصية، ولا ينكر أن دراساته حول الطوائف الدينية نابعة من مكانة الدين في حياته؛ لأن: "الدين فاعل أساسي في حياتنا اليومية المعاصرة، وهو يعمل مختلطا بالتقاليد أو التاريخ، ولكنه يفرض هيمنته الحقيقية بوضوح، ودون مواربة في مناطق شتى من العالم؛ ولذا عنيت من باب الفضول البحثي والمعرفي بدراسة الإبداع في الدين بالتركيز على الأقليات الدينية والحركات الروحية الجديدة التي تبزغ من وقت لآخر".

ابن المدينة المتدينة

جون ماييُر يؤكد أن اهتمامه بدراسة الحركات الدينية المعاصرة وبزوغها يعود لنشأته في "فريبورغ"، وينتهز كل فرصة للتعبير عن إعجابه الشديد بمدينته الوقورة المتدينة التي يحفظ تاريخها وأساطيرها عن ظهر قلب، وهي المعقل المسيحي الأشهر للرومان الكاثوليك في الدولة التي يحلو لأبنائها وصفها بالحياد والعلمانية بالرغم من علمها الأبيض الذي يتوسطه صليب أحمر اللون، وفريبورغ ما هي إلا وقف كنسي؛ حيث تمتلك الكنيسة الكاثوليكية نصف أراضي المدينة تقريبا وما عليها، وتتميز المدينة بصبغة دينية خاصة تتمثل في شوارعها التي يحمل معظمها أسماء القديسين والقديسات.

وتعد الكنائس الكبيرة والصغيرة بالمدينة ملمحا أساسيا تحددت على أساسه الطرق وتم ترسيمها، وتضم المقاطعة أيضاً ما لا يقل عن 60 جماعة دينية، منها المسلمون الذين نجحوا خلال العشرين عاماً الأخيرة فقط في إعداد أربعة مراكز للاجتماع والصلاة أسبوعيا. وقد زاد عدد مسلمي مقاطعة فريبورغ -خلال الفترة نفسها- من 32 ألفا إلى 60 ألفا طبقا للإحصاء السويسري!

صائد الطوائف الدينية

شرارة الاهتمام الأولى بالأديان انطلقت في مكتبة سان ميشيل بفريبورغ، وكان عمر مايير 26 عاما فقط يتذكر لحظتها فيقول: "وقع بصري على كتاب حول التدين في فرنسا والجماعات الدينية الصغيرة، جذبني كثيرا فآثرت التخصص في تلك الدراسات، رغم حصولي على الدكتوراة في التاريخ والحضارة.. فاتجهت لدراسة بعض الحركات المسيحية ثم الجماعات الدينية في الشرق في القرن التاسع عشر، ومنها انتقلت للظواهر الدينية المعاصرة متعقبا إياها أينما كانت. وانصب اهتمامي على الجماعات الدينية الصغيرة "المهمشة"' خارج التيارات السائدة والأديان المستقرة، وما يصحبها من ميلاد لأفكار جديدة بهدف دراسة تلك المنطقة الوسطى بين الأديان الرئيسية وتلك الأديان الهامشية؛ وبالتالي التعرف على آليات نشأة وتطور الأديان الكبرى التي لم نتابع لحظات بزوغها، ومن حسن الحظ أننا هنا الآن لندرس نشوء جماعات دينية أخرى معاصرة.. وقد نشرت كتابي "الطوائف الجديدة" عام 1985 عن الجذور التاريخية للجماعات الدينية.. ثم توالت الدراسات بعد ذلك بالإنجليزية وكذلك الفرنسية والألمانية، حيث أقوم بالتدريس بهما في الجامعة.

من تلك اللحظة اعتبرت نفسي "صائد الطوائف الدينية"، حيث اتخذت من القطار والطائرة وسيلة للذهاب إليهم في معاقلهم والتحاور معهم ومراقبتهم من وسط أفريقيا لأقصى الجنوب في شرق آسيا ومنه لجبال أوروبا وأصغر القرى في سويسرا.

وأعكف حاليا على كتاب تحت العنوان نفسه حول تجربتي مع تلك الطوائف التي كانت بمثابة جزر إيمانية نائية، دفعني فضولي إلى الاقتراب منها واكتشافها طبقا لأدوات البحث التاريخي. وهدفي هو فهم تلك الجماعات من الداخل؛ لأن كل ما نعرفه هو بوابة لمعرفة تاريخ الإنسانية بصورة أرحب، وخاصة في ظل عالم أضحى قرية صغيرة لا تفصل بينها حدود.

وليس أدل على ذلك من هذا المثال: ففي الثمانينيات، وعلى بعد عدة كيلومترات من فريبورغ، وفي قرية رومو الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها عدة آلاف، التقيت 30 مسيحيا سويسريا من أتباع طائفة دينية يابانية جديدة تسمى التاي، ورغم اتباعهم لتلك الطائفة فإنهم لا يجدون غضاضة في المشاركة في "قداس الأحد" الذي يعد إلى جانب قدسيته المسيحية اجتماعا أسبوعيا لأهل القرية؛ إذن الحدود لم تعد قائمة ليس فقط بين اليابان وسويسرا، ولكن بين اتباع هؤلاء للتاي وإيمانهم بالمسيحية!

موقع تلسكوب الأديان

وإلى جانب ترحاله الدائم يمنح ماييُر معظم وقته لتطوير ورعاية وليده أو موقعه البالغ من العمر عاما وعدة أشهر، والذي يعد بمثابة مرجع للتطورات الدينية على خريطة العالم. والموقع مزدوج اللغة (فرنسي / إنجليزي)، ويبدو أنه الموقع الوحيد الذي يقدم للكثيرين من الباحثين الجامعيين خدمة الأجندة الدولية للمؤتمرات الأكاديمية حول القضايا الدينية المعاصرة، واللافت للنظر -بعد 17 شهرا من إطلاقه- أن الأجندة غير متاحة على أي من المواقع الأخرى الشبيهة، سواء الناطقة بالإنجليزية أو الفرنسية.

وتشير إحصائيات الموقع أن عدد القراء في ازدياد، حيث وصل مؤخرا إلى نحو600 زائر يوميا، ينتمون لنحو 93 دولة من بينهم مشتركون من حوالي 24 دولة يتلقون بانتظام نشرة الموقع المجانية التي ساهمت في تعريف الكثيرين منهم بتلك العوالم الدينية المجهولة، كما تؤكد رسائلهم التي تصل ماييُر للتعبير عن تقديريهم للموقع الفريد.

ويؤكد ماييُر أنه لا يعرف نوعية الزائرين لموقعه، ولا يستبعد أن يكون أغلبهم من الباحثين المهتمين بهذا المجال، إلا أنه يستقبل من حين لآخر رسائل من أشخاص عاديين لشكره أو التعليق على بعض محتويات الموقع، وقد كتب له أحد القراء الدائمين المجهولين -قارئ على المعاش كما وصف نفسه-: "شكرا لذلك الموقع الذي يقدم لنا المعلومات القادرة على إخراجنا من مركزيتنا العرقية كغربيين وأوروبيين".

حكى لي مايير فكرة وقصة ميلاد موقعه فقال: "تم تدشين الموقع في منتصف ليلة 15 يناير 2002، بهدف ملاحقة التطورات المتلاحقة في مجال الحركات والجماعات الدينية المعاصرة مع عدم إهمال البعدين التاريخي والاجتماعي في مناقشة الظواهر الدينية وعلاقتها بالسياسة، والموقع مستقل لا ينتمي لأية طائفة أو جماعة دينية أو غيرها داخل أوروبا أو خارجها، وهو عبارة عن خدمة أقدمه باسم مركز جي إف إم (JFM) -الحروف الأولى من اسمي- للدراسات التحليلية الذي أنشأته عام 1999 باعتباري مستشارا في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية لعدد من الهيئات".

ويعني الموقع بتقديم دراسات ومعلومات وتحليلات وأخبار ولقاءات صحفية حول الأديان والحركات الروحية المستقلة في عالمنا المعاصر. ولا يخلو الموقع رغم جديته وتأكيده التزام الحياد والموضوعية من بعض الموضوعات التي تسببت في إثارة الجدل عند نشرها، ومن بينها دراسة عن تحول قبيلة أفريقية بالكامل لليهودية، وأخرى عن رجال الجهاد الإسلامي رآها البعض مادة دعائية، بينما اعتبرها مايير جزءا من المشهد الديني المعاصر.

سياسة مايير في النشر تقوم على رفض كل المواد التي تتخذ موقفا عدائيا أو دعائيا من أي طائفة دينية أيا كانت.

وعلي عاتق مايير بمفرده يقع عبء العمل كاملا، حيث يقوم باستقبال المقالات وإعداد المادة وتنظيم الموقع والتعريف به والدعاية له، ويحتاج أسبوعيًّا ليوم عمل كامل لتحديثه، هذا بالإضافة لأنشطته الأخرى التي تصب بصورة غير مباشرة ضمن محتويات الموقع أيضاً من تدريس وإعداد الأبحاث وكتابة المقالات واستقبال رسائل من باحثين وأكاديميين عابرين للتعاون أو للتعليق.

ولأن مايير صار صيادا، فقد أصبح قادرا على تحديد هدفه بدقة وتطوير نفسه باستمرار لإصابة الهدف بدقة، حدثني عن مشروعاته المستقبلية فقال: "أبحث حاليًّا عن تمويل محايد لا ديني ولا سياسي للحفاظ على طبيعة الموقع المجانية، وذلك حتى يتسنى الاستمرار في تقديمه بالكامل باللغتين الفرنسية، والإنجليزية التي لا تشكل حتى الآن سوى60 % من محتوى الموقع، وسوف يتيح التمويل فرصة توفير طاقم من المترجمين المتفرغين، بالإضافة إلى إنشاء وكالة أنباء ومعلومات دينية مجانية، حتى يتسنى الاستفادة منه لأكبر عدد من المتصفحين، سواء من الباحثين أو القراء المهتمين. كما أعمل حاليًّا على تحسين صفحة الروابط الأخرى بالموقع، التي كانت -مع بداية إطلاقه- من أكثر الصفحات جذباً للمترددين على الموقع، وكأنهم يذهبون إليها لاستخلاص رحيق الموقع وليقفزون منه من موقع لآخر، وأعتقد أن زيادة عدد المقالات ساهم مؤخراً في الإبقاء عليهم لفترات أطول، وإذا كنت قد تعلمت من الطوائف الدينية الكثير بين الاحترام والدهشة، فمن المؤكد أن تجربة رعاية الموقع كانت من أكثر التجارب تشويقاً وإمتاعا وإجهاداً في حياتي".

يعطيك العافيه اخوي

انشاء الله ما ننحرم من مساهماتك الحلوه