أجمل شيء في حياة الإنسان أيام الطفولة وبراءتها وعذوبة الصدق التي تتمتع بها تلك الأيام من لعب ولهو بالغ الصفاء، ولكن إذا تهاوت هذه السعادة أدراج الرياح دون إنذار ولا إذن مسبق حيث كانت الكلمة العليا لرب العالمين الذي اختارني من دون الناس كي أقضي بقية عمري من غير حضن الحنان الذي يتمناه كل إنسان مهما بلغ عمره وهو حضن الأم الدافئ الذي ليس له بديل مهما كان. قضيت بقية حياتي من دون صدر حنون يحميني من غدر الأيام ومصاعبها. لقد ذهبت أيام السعادة من حياتي وأنا ابنة السابعة من عمري ، حينما توفيت أمي وأنا في ذلك السن الصغير الذي يحتاج إلى الرعاية والاهتمام بعناية فائقة. رحلت أمي وأنا في سن ضعيف، يحتاج إلى كل لمسة حانية تضمد الجراح إذا ألمت بي. عشت أياماً في غاية الصعوبة، وتجرعت مرارة الحرمان من بداية هذه اللحظة. راحت أمي وتركت وراءها فراغاً كبيراً من الصعب جداً أن يملأه أي إنسان بعدها .. حتى أبي الذي يحبنا ولا يحرمنا من شيء حيث إن حالته المادية متوسطة ومستورة والحمد لله وتتكون أسرتي من ستة أولاد أحتل أنا المركز الثاني بعد أختي الكبيرة، وهذا كان السبب الرئيس والدافع الذي جعل والدي يفكر في الزواج من امرأة أخرى. ولم يكن لدينا أي مانع إذا كان لراحة أبي. وفعلاً تم زواجه لتأتي زوجته إلينا وتحتل مكان أغلى وأطيب وأحن الناس إلى قلبي.
دخلت المنزل بقناع العواطف والحب والحنية لتظهر به علينا في أول أيامها، وخصوصاً أمام أبي. ولكن القناع الثاني الذي يخفي وراءه القبح بجميع ألوانه.
وأرجو أن تلتمسوا لي العذر إذا تعديت عليها بأي لفظ. برغم أن أول مرة أقول فيها هذا الكلام، وعمري ما فكرت حتى بيني وبين نفسي أن انطق بتلك الحروف التي تسيء لها، لأني أخاف الله ولا أريد أن يغضب علي. وكذلك أبي فأني أحبه جداً ولا أريده أن يزعل مني ، وهو لا يدري ما تفعله زوجته بنا. كما أنه لا يتحدث معنا أبداً في أي شيء يهمنا أو يخصنا وهذا ما جعلها تكون سيدة المنزل وتقوم بدور زوجة الأب سليطة اللسان ببراعة ومهارة بالغة. وأخذت الأيام تمر، ونزداد حرماناً ومرارة، واشتدت أكثر عندما شرفنا طفل صغير أخ لنا منها فاحتويناه وأحببناه كثيراً ومن لحظتها تم رفع شعار ((اخدم نفسك بنفسك))، فكنت أنا الضحية عن طيب خاطر من أجل إخوتي والعمل على راحتهم وتلبية رغباتهم فتركت الدراسة من نصف الدبلوم، ولم أكمل تعليمي ، وجلست في المنزل من أجل ذلك أدير شؤون المنزل من الألف إلى الياء. وكما قلت باختياري ولم يجبرني أحد على ذلك، احتويت أخواتي بالتفاهم والحب كي نعوض بعضنا عن فقدان حنان الأم وحتى أخونا الصغير منها لأنه ليس له أي ذنب. ولكن مشكلتي أصبحت أكثر عندما قررت عدم إكمال تعليمي فقد انشغل كل واحد من أخواتي في دراسته وأحلامه، وبقيت أنا وحيدة لا يهتم بي أحد إلا إذا أراد مني شيئاً. حبست همومي بين أضلعي وتركتها لرب العالمين لأنه المعين الوحيد في تلك الأمور. ولكن كلما مر الوقت تزداد الأمور تعقيداً ولا أعرف ما السبب الذي يجعل زوجة أب توجه لي الشتائم في كل وقت ومن غير داع أو سبب. أتحامل على نفسي وأدخل غرفتي وأبكي وحيدة دون أن يعلم أحد ما بداخلي من قهر وحزن كما أنه لا يوجد من يسألني عما بي ووصل الأمر بزوجة أبي أن تدعو علي بعدم الراحة وقلة الهناء، وجعلتني أموت خوفاً من تلك الدعوات التي لا أستحقها كما أنها تزعم بين أقاربنا وجميع من يعرفنا بأنني شريرة وقلبي مغلف بالسواد والحقد عليها وعلى من حولها .. ولكن يشهد الله إنني لم أفعل أي شيء تقوله عني للناس. ولكن الآن أريد أن أوضح لكم جميعاً بأنني تغلبت على جميع أهوالي وأحزاني باللجوء إلى الله عز وجل، فهو حسبي ووكيلي وأنا إلى الآن وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها لكم أعاني العذاب بشتى ألوانه .. ولا أعرف كيف أتصرف مع تلك الإنسانة التي لا يكفيها أنني حرمت من حنان أمي وعطفها، بل على العكس فهي تتفنن في تجريحي وإهانتي وتتلذذ في التحدث عني والتشهير بي وبسمعتي ، وكما وصل بها الأمر بأنها تتهمني بسوء أخلاقي مع إني وأقسم بالله لم أخرج من المنزل .. إلا مع جميع أخواتي أو أبي ولا نذهب إلى أي مكان إلا منزل عمي القريب من منزلنا جداً وصدقوني بأنني ليس لدي أي تفسير لما يحدث معي فأنا لم يبدر مني أي شيء ضدها وأعمل على راحتها وكل ما تطلبه وذلك فقط من أجل حبي لأبي.
ولكن يبقى اللغز الذي يبحث عن حل دائماً، والذي لا يعرف أحد سره حتى من هم خبراء في العلاقات الأسرية، وهو لماذا تكره زوجة الأب أبناء زوجها وتعاملهم بقسوة من دون أي ذنب اقترفوه؟
لقد طفح الكيل بي ولم أعد أتحمل كل ذلك .. فما الذي أستطيع فعله كي أعيش بقية حياتي حتى يأتي لي النصيب بالزواج وأخرج من هذا الجحيم(1) .
ــــــــــــــــ
(1) جريدة الهدف، العدد: 1862.